مريم تقطف العلم وتهديه أطفال قريتها

في قرية منظر التابعة لمديرية الحوك جنوب محافظة الحديدة، وُلدت مريم في أسرة بسيطة، كان ترتيبها الرابع بعد أختين وأخ، لم يتجاوز عمر أكبرهم ست سنوات حينها. عندما وصلت الحرب منتصف العام 2018 بين الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا وجماعة أنصار الله (الحوثيين) إلى قرية منظر، كان عمر مريم خمسة عشر عامًا. أجبرت الحرب معظم سكان القرية، الذين يعتاشون من الصيد، على النزوح بأرواحهم تاركين كل شيء خلفهم.
استقر الحال بمعظمهم في أطراف المدينة الجنوبية، وبالتحديد في إحدى مدارس حي الربصة. وكانت فرحة مريم بوجودها في المدينة تخفف قليلاً من الأسى الذي خلفه النزوح والحرب، فهي، حسب قولها: "كان في المدينة مدارس وفرحت أنني سأكمل تعليمي هناك، لأن المدرسين في المدينة موجودون لكل المواد الدراسية بعكس القرية".
كافحت مريم لتلتحق بمدرسة بعيدة نسبيًا عن مسكنها الجديد، حيث كانت المدارس القريبة تدرّس المرحلة الأساسية فقط. فكانت تمشي يوميًا ما يقارب 40 دقيقة ذهابًا ومثلها إيابًا في حر مدينة الحديدة.
انتقلت أسرتها خلال ذلك للعيش قرب مدرسة الإيواء في كوخ "عشة" بناه الأب بعد أن ازدحمت مدرسة الإيواء بالنازحين الجدد، حتى من أطراف المدينة. وقد وفّرت "العشة" جوًا ألطف مقارنة بالجدران الحارة.
كانت مريم تتطوع عصر كل يوم تعود فيه من المدرسة لتعليم الفتيات النازحات بمجهود فردي، تشرح لهن أساسيات التعليم مثل الأرقام، الأحرف، الكلمات، والعلوم. واستمرت في ذلك حتى بعد أن أنهت الثانوية. وفي السنة التي عاد فيها النازحون إلى القرية بعد انسحاب قوات الحكومة الشرعية المدعومة من التحالف نهاية عام 2021، كانت أسرة مريم إحدى الأسر التي عادت إلى قريتهم ومنازلهم المهدمة.
النزوح والتسرب
بحسب مدير مكتب التربية والتعليم بمحافظة الحديدة في المناطق التي تقع تحت لسيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، الأستاذ عمر بحر، فإن النزوح يُعد من أهم العوامل التي دفعت أولياء الأمور إلى رفض إلحاق بناتهم بالمدارس والتفكير بدلًا عن ذلك في تزويجهن عند بلوغهن سن الزواج أو دونه.
وأشار في حديثه لمنصة هودج، إلى دور الحكومة ومنظمات المجتمع المدني الفعال في إعادة ترميم المدارس المتضررة وتأهيلها والعمل على بناء مدارس جديدة. وفي سياق حديثه، قال بحر إن هناك شُحًا في وجود المناهج الدراسية وتلف النسخ المتوفرة للمراحل الثانوية من المنهج القديم، مما يشكّل عائقًا كبيرًا أمام العملية التعليمية.
إضافة إلى العوامل السابقة، هناك تأثيرات نفسية ترافق الفتاة التي تعود إلى الدراسة بعد سنوات من الانقطاع. تقول الأخصائية النفسية في إحدى المدارس الحكومية، رحيمة أبكر، لمنصة هودج إن معظم الفتيات يتعرضن للتنمر من نظيراتهن في الصف نظرًا لفارق السن، مما يشعرهن بالإحباط في كثير من الأوقات.
لا تتوقف المعوقات التعليمية عند هذا الحد. فبحسب اليونيسيف، فإن طفل من كل أربعة أطفال لا يذهب إلى المدرسة، فيما يعاني أولئك الذين يمكنهم الحضور من فصول دراسية مكتظة ومرافق تعليمية غير مجهزة. وفي وقت لا تزال رواتب المعلمين متوقفة منذ عام 2016، يعاني أكثر من 30% من الفتيات في اليمن من الزواج قبل بلوغهن سن 18 عامًا. وبمجرد تسربهن من المدرسة، تتضاءل فرص عودتهن واللحاق مجددًا بالتعليم، مما يؤدي إلى حلقة مفرغة من الأمية والفقر العابرة للأجيال.
جدير بالذكر أن الحرب دمرت 2,916 مدرسة (واحدة على الأقل من بين كل أربع مدارس) أو تضررت جزئيًا أو استُخدمت لأغراض غير تعليمية. ومع استمرار الوضع الإنساني في التدهور، لا يزال حوالي مليوني طفل خارج المدرسة، أغلبهم فتيات في سن الدراسة، إضافة إلى عوامل أخرى، أهمها الوضع الاقتصادي والاجتماعي الذي تعيشه البلاد.
صعوبات إضافية
وفي ذات الإطار، قال مدير مكتب التربية في مديريات الحديدة التابعة لسلطة الحكومة الشرعية المعترف بها دوليًا، إبراهيم أجعش، لمنصة هودج إن "مخيمات النازحين في الحديدة تفتقر للبنية التحتية اللازمة لتوفير بناء تعليمي مناسب للأطفال، حيث تفتقر بعض الفصول الدراسية المؤقتة المبنية من القش أو الخشب إلى المواد الأساسية وربطها بالخدمات".
وأوضح أجعش أن الزواج المبكر يمثل عائقًا رئيسيًا أمام استكمال الفتيات لتعليمهن، حيث يدفع العديد من الأزواج إلى منع زوجاتهن من مواصلة الدراسة وتحميلهن مسؤولية تربية الأطفال. كما أشار إلى أن نقص المدارس الحكومية للبنات والخوف من الاختلاط يدفعان الأسر إلى حرمان بناتهن من التعليم، خاصة في ظل الظروف المعيشية الصعبة وارتفاع تكاليف المدارس الخاصة. بالإضافة إلى ذلك، فقدان المؤهلات الدراسية نتيجة النزوح يمثل عذرًا إضافيًا لدى بعض الأسر لعدم إلحاق بناتهن بالمدارس.
لم تكن المعوقات لتقف أمام إصرار مريم بعد عودتها إلى قريتها على الالتحاق بالجامعة. رغم ظروف الأسرة الصعبة، رفضت الاستسلام وعملت كمدرسة متطوعة في إحدى المدارس الحكومية للمراحل الابتدائية. وبالتوازي مع ذلك، التحقت بكلية التربية قسم التربية الإسلامية، وقد قطعت شوطًا كبيرًا وهي الآن على بعد عام واحد من إكمال تعليمها الجامعي.
من هذا الرسوخ والإيمان بما تفعله، لم تكن مريم تعلم الأطفال فقط، بل كانت تحفزهم على الحلم. كانت تخبرهم عن أهمية التعليم في بناء مستقبلهم، حتى في ظل الحرب والظروف الصعبة. ومع مرور الوقت، بدأت القرية تتغير، وبدأت الأسر تدرك أهمية التعليم للفتيات. فالتعليم، في عيون مريم وفتيات قريتها، مفتاح للتمكين والسلام.