قصر سَيْئون أكبر مباني اليمن الطينية وبهجة قصور حضرموت

القدس العربي

هو دُرة مدينة سَيْئون وعنوانها…إذ لا يمكن مغادرة هذه المدينة من دون أن تزوره وتستمتع بتأمل معالمه ورؤية أبهته، وتطلُّ من على إحدى شرفاته على هذه المدنية التي هي عاصمة وادي حضرموت، شرق اليمن.


على الرغم من أن متحف الآثار في القصر ما زال مغلقاً بسبب أوضاع البلد الراهنة، إلا أن مصادر محلية تؤكد اقتراب فتحه لجميع الزوار، فيما هو حالياً مفتوح للزيارات الجماعية ممثلة في طلاب المدارس ومنتسبي الجمعيات.


وشهد القصر مؤخراً عمليتي ترميم: الأولى تمت قبل شهور، وشملت الهيكل الداخلي، فيما تم الانتهاء، مؤخراً، من عملية ترميم شملت إعادة طلاء الواجهات الخارجية وتجديد النورة. وهو مشروع شمل طلاء النوافذ والأبواب، وتنفيذ ترميمات ضرورية لمواضع متضررة، وتحديداً في الجهة الغربية للقصر، بالإضافة إلى ترميم بعض الملحقات داخل الفناء.


فخامة الطين


ضخامة وفخامة وجمال كهذا مصدره الطين يجعل من هذا القصر قطعة فنية فريدة، كما يقول الباحث في تاريخ الفن والعمارة عبد الرحمن السقاف المدير السابق لمكتب هيئة الآثار والمتاحف بوادي حضرموت، متحدثاً لـ “القدس العربي” مضيفاً إن ما يُميز هذا القصر، أيضاً، هو إنه يختزل جماليات الفن المعماري في حضرموت على مدى خمسمئة سنة، وهو عمر هذا القصر.


وتُعدّ مدينة سَيْئون العاصمة الإدارية لوادي حضرموت (تُطل محافظة حضرموت على ساحل البحر العربي، وتبعد المدينة عن العاصمة صنعاء 794 كيلومترا) وازدهرت سَيْئون كعاصمة للوادي منذ القرن الخامس عشر الميلادي، وتمتاز باتساع رقعتها الجغرافية، ومناخها المعتدل، ومنازلها المبنية، في معظمها، من الطين بارتفاع يتراوح ما بين 3-4 طوابق، باستثناء قصر سيئون أو قصر السلطان الكثيري، الذي يصل ارتفاعه إلى ستة طوابق، وهو بالإضافة إلى هذا الارتفاع، الذي يصل إلى 26 متراً، شُيد على سفح ربوة ترتفع عن مستوى سطح الأرض المجاورة قرابة 35 متراً، وزاد من هذا التميز ضخامة المبنى الذي بُني على مساحة 5460 متراً مربعاً، مؤلفاً من 16 بناية، ومحتوياً 96 غرفة و32 حماماً و14 مستودعاً ومخزناً، وهو بهذا الارتفاع والضخامة والامتداد يبرز كواجهة معمارية وفنية في مجمل الرؤية البصرية للمدينة.



 

ويزيد من خصوصية موقع هذا القصر في وسط المدينة، شموخ مبناه وجمال تناسق منظومته وهيبة هيئته المفعمة بالأبهة والفخامة، أبهة سلاطين السلطنة الكثيرية الذين سقطت سلطنتهم في العام 1967 عقب استقلال جنوب اليمن عن المستعمر البريطاني، وطي صفحة حكم السلطنات، وقيام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي استمرت حتى أُعيد توحيد اليمن في العام 1990.


يقول عبد الرحمن السقاف: القيمة التاريخية للقصر في قدمه أولاً، كما تكمن ثانياً في أنه يحوي أنماط عمارة ممتدة لخمسمئة سنة من عمران السلاطين. فنلاحظ في القصر ظهور واختفاء أنماط مختلفة، حيث كان كل سلطان يضيف ويضع بصمته في القصر. وبالتالي فهو يمثل شهادة لهذا التراث المعماري المتعاقب منذ تأسيسه. كما أنه يحكي قصة تحوله من حصن إلى قصر وقصر في حصن وحصن في قصر.


عقب الاستقلال من المستعمر البريطاني وطي صفحة السلطنات أمرت سلطة الجمهورية الوليدة، حينها، بتحويل القصور السلطانية إلى دُور ثقافية مفتوحة للزيارة؛ وهو واقع، كما يرى السقاف، كان ضاراً ونافعاً في آن. فبعض القصور اُستغلت جيداً، وبعضها شغلتها عدة مؤسسات حكومية، وبالتالي لم تول ترميمها وصيانتها أي عناية، مثل هذا القصر، إلى أن أُعيدت وحدة البلاد، وتم إحالة القصر مكاتب للسياحة والثقافة ومكتب للهيئة العامة للآثار والمتاحف بالإضافة إلى متحف سيئون، ومن ثم أصبح مقراً مؤقتاً لمكتب الثقافة في المديرية ومقراً لمكتب هيئة الآثار والمتاحف مع متحف الآثار.


السلطنة الكثيرية


كان جنوب اليمن يضم تحت الحماية البريطانية 23 سلطنة ومشيخة تتمتع بحكم شبه مستقل، وسقطت جميعاً عقب الاستقلال عام 1967. وكان هذا القصر حتى قبل الاستقلال مقر حُكم سلطان السلطنة الكثيرية، والتي كانت تحكم جزءاً كبيراً من وادي حضرموت، واتخذ سلطانها بدر بن عبد الله الكثيري، من مدينة سيئون عاصمة لسلطنته، كما أتخذ فيها هذا القصر، الذي كان يعرف حينها بـ”حصن الدويل” مقرأ لإقامته وحكمه، وذلك في عام 1516 (تقول بعض المراجع إن تسمية هذا القصر حصن الدويل استمرت خمسمئة وأربعين سنة). وفي سنة 1872 أُعيد بناء القصر بشكله الحالي من قِبل السلطان الكثيري “المنصور بن غالب” وفي سنة 1926 تم طلاء القصر من خارجه بالنورة (مادة جيرية محلية تُطلى بها واجهات المباني الطينية هناك) من قِبل السلطان الكثيري، علي بن منصور الكثيري، حيث تمت إضافة بعض الملحقات، وشهد تطويراً في داخله وخارجه بالشكل الذي نراه اليوم.


وكان السلطان حسين بن علي بن منصور الكثيري هو آخر مَن سكن هذا القصر من سلاطين الدولة الكثيرية، قبل أن يتحول اسم هذا المعلم إلى “قصر الثورة” حيث اتخذته حكومة الثورة في (الشطر الجنوبي من اليمن سابقاً) مقراً للشرطة والأجهزة الأمنية، ومن ثم مقراً لمكاتب هيئة الآثار والمتاحف ومتحف سيئون، وهو المتحف الذي يضم بعض مآثر السلطنة الكثيرية وآثار وادي حضرموت، ويعرضها في قاعات القصر، الذي صار في الآونة الأخيرة يُعرف باسم “قصر سَيْئون”. هذا القصر الذي أُعيد ترميمه غير مرة آخرها في عام 2019 كما سبقت الإشارة. ويحظى القصر باهتمام باعتباره من أهم المعالم التاريخية هناك، وأضخم مبنى طيني في العالم، وفق مدير مكتب هيئة الآثار هناك حسين العيدروس، متحدثاً لإحدى الصحف المحلية. كما بات رمزاً تاريخياً وثقافياً وسياسياً، بل إن الحكومة اليمنية وضعت صورته على واجهة فئة الألف ريال من عملتها الورقية في دلالة واضحة على مكانته وأهميته.


المتحف


ويشغل المتحف تقريباً مساحة 50 في المئة من القصر، وربما أكثر، ويشمل مجموعات أثرية ذات قيمة تاريخية، منها القطع التي تم جمعها من المواقع الأثرية في وادي حضرموت، وتحديداً منطقة ريبون الأثرية، وغيرها من المناطق في الوادي مثل: باقطفة وسونة ومشغة وغيرها، وهي موزعة على أقسام المتحف داخل القصر، وشهد المتحف توسيع صالات العرض، وأصبحت كل صالة مخصصة لفترة زمنية، كما صار جزء من المتحف مخصصا للثقافة التقليدية، وجزء آخر مخصصا للصور التاريخية النادرة.


ويوضح السقاف أن محتويات المتحف مُصانة ومحفوظة وآمنة، وتكمن أهميتها في كونها تُعبّر عن مراحل مختلفة من تاريخ منطقة حضرموت وهي نتاج أعمال تنقيب بعثات روسية وفرنسية ويمنية ومسوحات بريطانية وبعثات مختلفة، وتمثل هذه القطع في المتحف نتاج تنقيب بطرق علمية، وهذا ما يميزها أيضاً. ومن أهم محتويات المتحف، حسب السقاف، قطع تعود للعصر البرونزي، ويصل عمرها إلى أربعة آلاف سنة، وتُعدّ من أقدم التماثيل المكتشفة في اليمن، وتشبه تلك المكتشفة في مناطق خولان وغيرها من شمال اليمن، ما يدلل على الوحدة الثقافية في اليمن، على حد تعبيره.


الأبهة


عندما تصل إلى ساحة القصر الخارجية ستجد مبانٍ جديدة بدأت تأخذ مكانها في الهيئة والكتلة المعمارية المحيطة بالقصر، في ظل تنافس تجاري على المنطقة باعتبارها سوق، وهو ما قد يؤثر مستقبلاً على مجال الرؤية البصرية للقصر.


وقد صرتْ في تلك الساحة، وعلى بُعد خطوات من البوابة الرئيسة، ستقف مندهشاً وأنت تتأمل شموخ وضخامة المبنى متملياً في تفاصيل واجهاته الخارجية، وستجده من الخارج، على أبهته، أقرب إلى الحصن منه إلى القصر؛ فمنظومته من سور وأبراج ونوافذ وفناء وبوابات وملاحق وغيرها روعي فيها التحصين كثيراً، إلا أن هذا لا ينتقص من قيمته الفنية والجمالية الإبداعية، بل ضاعفت منها، فالموائمة بين متطلبات الحصن وخصائص القصر أمرٌ في غاية التعقيد، لكنها تجلت في هذا المعلم، الذي هو حصن فخم وقصر حصين، وبين هذا وذاك يبرز باعتباره آية من آيات الجمال المعماري بما فيه من تنوعٍ وتعددٍ ناتج عن ثراء في المكونات والعناصر وعبقرية في التصميم والتكوين، واللافت إن روح كل هذا الجمال من طين، نعم، قصر طيني! ومثل هذا ليس بغريب، حيث تزدهر في وادي حضرموت العمارة الطينية إلى اليوم، وذلك لملاءمتها مناخ الوادي الذي يتميز بالحرارة والجفاف.



 

ويوضح الباحث والتشكيلي عبد الرحمن السقاف أن القصر بُني في الأساس حصناً وتطور لاحقاً إلى قصر، وهو ما يمكن ملاحظته في التحصينات التي تشمل السور ونوبات الحراسة وغيرها من المرافق، لكنه، فيما بعد، تحول إلى قصر، فأضيفت له الطوابق العلوية بأنماط معمارية فخمة مستوردة من الخارج، وقد استقدمها المهاجرون الحضارم معهم من مهاجرهم في جنوب شرق آسيا، وأضافوها للصبغة المعمارية المحلية، لكن من خلال الطين وبهذه الضخامة تمدداً وتطاولاً، ما يجعل منه، بلا شك، إعجازا معماريا يضاعف من قيمته الفنية والعلمية.


جماليات


ولهذا فإن المتأمل في تفاصيل اللوحة التشكيلية الخارجية للقصر يجد فيها مسحة كأنها اندونيسية، ومثل هذا لا يقتصر على هذا المبني وحده في حضرموت، بل يمتد إلى مبانٍ كثيرة في مناطق حضرموت، بحكم تأثير الهجرات الحضرمية المبكرة إلى بلدان جنوب شرق آسيا، إلا ان توظيف تلك التفاصيل قد تم بحرفية عالية بقتْ معها المكونات والتفاصيل المحلية بارزة. ووفق السقاف فإن تلك المسحة، كما سبقت الإشارة، قد تكون استقدمت من دول المهجر إلا أنها ليست آسيوية، بل أوروبية كان قد جلبها المستعمر الأوروبي إلى تلك الدول الآسيوية، التي كان يحتلها، وهناك تأثر بها المهاجر الحضرمي وجلبها لبلده، لكنه اشتغل عليها بحرفية يمنية من خلال مكونات وتفاصيل محلية.


الدخول إلى القصر يتم من البوابة الرئيسة للسور، والتي يتم الصعود إليها عبر سُلّم حجري وصولاً إلى بوابة ممهورة بتفاصيل جمالية وافرة. تؤدي هذه البوابة إلى سلالم أخرى تسلمك إلى فناء القصر، وهو فناء يطلُّ عليه القصر من جهات ثلاث بحكم أن الملاحق شغلت فناء الجهة الرابعة.



 

يمكن الدخول إلى القصر عبر المدخل الرئيسي، وهو عبارة عن بوابة خشبية سميكة مطعّمة بزخارف قليلة، وتقع في الركن الغربي للواجهة الأمامية للقصر، ولأن الطابق الأول (الأرضي) كان يخصصه السلاطين للمخازن والخدم والعمال، وبالتالي كان له باباً مستقلاً في الطابق نفسه، فيما كانت بوابة القصر تؤدي إلى طابقه الثاني، والتي يصعد إليها الزائر من الفناء عبر سلالم أنيقة.


أروقة القصر


تؤدي بوابة القصر إلى أروقة وحجرات الطابق الثاني، التي كانت تستخدم لإدارات شؤون السلطنة الكثيرية، ولهذا فالحجرات والأروقة والنوافذ واسعة، ولها شرفة كبيرة هي عبارة عن رواق بطول واجهات القصر، وتنتهي هذه الشرفة، المطلة على الفناء، بأعمدة وعقود منظومة في شكل رائق بديع.


ولأن السلاطين خصصوا الطابق الثالث للجلسات العائلية، والطابق الرابع لزوجاتهم، فقد اعتنوا كثيراً في بنائها، من حيث تضييق مساحتهما عن مساحة الطابقين الأول والثاني، وتمييزهما بأبراج أربعة موزعة على الأركان الأربعة، وتحتضن هذه الأبراج السلالم، وتعزز التحصينات الأمنية للقصر، وفي الوقت نفسه فإن سُلم كل برج يمثل مدخلاً ومخرجًا لحجرات وأروقة معينة في هذه الطوابق المتمثلة في الثالث والرابع، والتي تُطلّ على شُرفة لها سور يتوج هامة سطح الطابق الثالث. أما الطابق الخامس فيقتصر على حجرتين يُحيط بهما سور أنيق يتوج هامة القصر، وتقول المصادر إن السلطان كان يستخدم إحدى الحجرتين لاستراحته والأخرى لنومه، بينما يستخدم مع عائلته حجرة ثالثة أقيمت في الطابق السادس لتأمل المدينة والاستمتاع بمناظر بساتين النخيل في وادي حضرموت على أطراف المدينة، ومنظر المدينة من أعلى شرفات القصر مفعم بإحساس مختلف ستظل مشتعلاً به ما حييت عقب مغادرة القصر والمدينة والوادي!


وتتوزع استخدامات القصر حالياً بين صالات عرض المتحف ومخازن حفظ القطع الأثرية ومكاتب هيئة الآثار ومكتب الثقافة بمديرية سيئون مؤقتاً، ومستودعات ومخازن أخرى ومكتبة وورش.


ولكونه مبنى طيني فهو يحتاج إلى ترميم بين فترة وأخرى، وعقب انتهاء مشروع ترميمه الأخير يصبح من الضروري استكمال الترتيبات لفتح المتحف أمام الناس، كما كان عليه الوضع سابقاً، فمن غير المنطقي أن يبقى هذا المعلم مغلقاً أمام الزوار كل هذه السنوات.


إلى ذلك يهيب مثقفون في وادي حضرموت بالسلطة المحلية للمدينة بأهمية تنظيم وضبط ايقاع العمارة في المنطقة المحيطة بالقصر، بما يضمن بقاء المنطقة ذات بصمة تاريخية عنوانها هذا القصر.