أطفال الأرصفة
(1)
وزِّن يا عمّ ، لبان يا عمّ ، تشتي ملاخيخ يا عمّو ، ماء بارد ماء بارد ،
كلماتٌ تسمعها فيرتدُّ اليك النبض خاسئاً وهو حسير..!!؛؛
لطالما كانتِ الأشجار والانارات هي التي تزين الطريق وتُنيرها ، إذ أضْحَتِ اليوم وللأسف الشديد..يكتحلُ طرْفُها بطفٍل يحِمل في يدية الميزان ، وتُزَينُ بطفلةٍ ترتدي حزنها ، وتبيع اللبان في كل منعطفٍ وَممّر ، وتنيرها عيون بائعي الماء البارد تحت حرارة الشمس المدقعه ،
ونحن نراهم..
فتلفتُ إنتباهنا إبتسامة أحدهم ذات غِرَة ودون قصدٍ منه ،
ننطلق إلية مسرعين متلهفين ، لنلتقط معه صورةً ثم نقوم بنشرها..
قائلين :
ما أجمل ابتسامه الفقراء..!!
(2)
إستوقفتني طفلةٌ وفتى..؛؛
حين كنت ماراً وطريق الأحلام والطموحات ، لأجد أحلاماّ عظيمهً تكاد تصل الثريا..،
أذهلتنى نظرة طفلٍ بعد أن وسَّد أحلامه الثرى ، كان باسم الثغر ، جميل المُحيّا ، عليه قليلٌ من التراب بادٍ على وجهه ،
إستعطفني الموقف وأثارني الفضول ،
وضعت يدي على كتفه والأخرى حيث النبض ، سألته عن اسمه وعمرة ووالداه ، تبيّن لي أنه رجلٌ في هيئة طفل ..
لم تسعفني الكلمات ، فقد انهارت دموعي بعد أن سمعتة يحكي ،
فقلت له مطبطباً ومداويا.. علَّ حروفي تلامس شغاف قلبه..
قلت :
إسمع ترانيمَ الأمل ، ردِّد تباشيرَ الفرح ، عدِّد عطايا الربِّ أوقات الفرج ، إمسح دموعَ الحزنِ من خدٍ خجولٍ شاحبٍ للهِ ذلاً ترنَّح وأنْطرَح ، رتِّل آيات الإرادة والثبات..دوِّن أمانيكَ التي ساحت أقاصي الأرضَ تجتاحُ الألم ، سلِّط حبالَ الحبِّ..حول الكُرهِ تَخْتَلِعُ التواني..تجتازُ الثواني..تجْتَثُّ المعاناةَ التي أضْحَت تُردَدُّ مِثلُ أذكارِ الصَباح ، حَلِّقْ بِحُلْمكَ عالياً فوقَ السَحابِ تُثيرُ المُزْنَ فيها..وغيثُ الحُلْمِ تُسقِطُه الرياح، جَرِّد أضاحي القلبَ من سُقْمٍ تسرطنَ أحشاءَ الفؤادِ ومنه بات الحُلْمُ يكسوهُ القلق..
مزِّقْ تلابيبَ الرتَابةِ والكآبةِ واصْدَح بعمقِ الصوتِ..بصوتِ العُمٔق.. للآفاقِ تنداحُ الاهازيجُ الفِحَاح..
كَسًِر قناطِيراً تفيضُ بلهفةٍ لليأسِ للإحباطِ للذُّل المُكَوَّرُ في لجيناتِ التعفْنِّ بين آهات النياح..
هزَّ لي رأسه ومداعباً تظاهر بالخيبة بالحب ثم قال : هل تشتري مني علبة ماء..!!؟؟
جررت ذيول الحزن , أقتاتُ المعيَّة آملاً أن تصبح الدنيا بخير ، فيذهب هذا الطفل مع قرنائه الى المدرسه حاملاً على ظهرة حقيبةً مدرسيهً بدلاً من كرتون ماء..!!
(3)
وبينما كنتُ أحدِّقُ في الأنحاء ، تجول ملايين التأوهات وعلامات الاستفهام في خاطري ، إلتقطت عدسات عينيّ طفلةً سمراء سومريّة ، قد أرختْ رأسها بين أرجلها ، واضعهً يدها على وجهها تبكي وربما تتباكى ، على مضضٍ انتقلت اليها ، تقف بجانب ميزانٍ مكسور ، أهالتني الصورة ، لم أستطع على ذلك صبرا ، بسطتُ يدي واعطيتها بعض الريالات ، وانطلقت الى المنزل حاملاً بصدري سفينةً ضخمًة.. بداخلها طاحونةٌ عظيمةٌ تبتلع وتبتلع ،
لم أستطع النسيان ،،،
تنهيداتي تسابق أنفاسي ،
كيف لي أن اتخيّل..إن لم أُبالِغ فآلاف الأطفال يجوبون الطرقات ، ويسكنون الأرصفة ، ظلالهم شمسٌ ساطعة ، وفراشهم بقايا كراتين المياة .
(4)
في المساء_ربما تكون التاسعة مساءًا_ارخيت جفني مستلطفاً النوم ليأتي علّي أخرجُ من سراديب التفكير والإكتئاب ،واريت جسدي الفراش ، وعينايَ تُخبراني عن قصةِ سهرٍ طويلةٌ بانتظاري على قارعة النوم ، لا ادري كم لبثت اصارِعُ نومي ، ولكني لم ادرك الأ بعد أن رنّ هاتفي باتصالٍ من صديقي الذي يوقظني دائماً في الثامنة صباحاً..
لأنهض محاولاً التغلب على ذلك الخمول الذي يجتاحني حتى أخمص قدماي ،
لملمت اجزائي_ورتبت نفسي_ ووضعت رشَّتي عِطرٍ ومبلغاً من المال ، أخذت حقيبتي وانطلقت بادئاً بنفس جدولي وروتيني اليومي ، توجهت صوب مكان دراستي ، لَحَظْتُ فتاه البارحة نفسها..بنفس المكان..ونفس التوقيت.. ونفس الوضعية التي كانت عليها الأمس ،
غضضتُ الطرْفَ ومشيت محاولاً التناسي ،
وفي طريق العودة..
وجدتها أيضاً بنفس الحال ، في اليوم الثاني الثالث الرابع والخامس ، مرّ أسبوع والحال منصوبٌ دائماً لم يتغير ، وأنا امرُّ بنفس التوقيت وفي نفس الطريق والفتاة لم تبرح مكانها وكأنها تؤدي وظيفةً ما..!!!
جالت برأسي أسئلةٌ كثيرة لم أكن أريد حتى التفكير بها..؛؛
من هذه الفتاة؟ ما قصتها ؟ ما حكاية الميزان المكسور والبيض المبعثر على الرصيف ؟ ما سِرِ الحكاية !!
هل هذه الفتاه حقاً إنكسر ميزانها وخرجت تبحث عن لقمة عيشها!!
هل ذاك الطفل الذي يتنهد بصعوبه وقد تقرحت شفاهه من رياح الصبح الباردة وشمس الظهر الحارقة.. تبعثر البيض علية وقعد ينتظر نجدةً ونظرةً من هنا او هناك ؟؟ وهل هو محتاجٌ ام موظفٌ خاص في مهنةٍ جديدةٍ ظهرت في السوق ؟؟
اعتقد أن الأغلب فهم ذلك..!!
لا علينا ..دعوني انهي الحديث..؛
(5)
مرّ أسبوع كامل وأنا امشي بنفس الطريق وفي نفس التوقيت والفتاة على عادتها وهيئتها ؛؛
إعتراني الفضول ورغبت في البحث على إجابةٍ لكل تلك الأسئلة التي تدور براسي كالعاصفة ، والتي ارّقت مضجعي.،
أخذت نفسَاً وأعتذرت من الله ثم انطلقت إليها ، كانت مطاطأةً رأسها ، وضعت يداي على كتفيها وطلبت منها أن تنظر إليّ ، هزت رأسها معبرةً عن الرفض ، سألتها عن إسمها لم تجب..!!
حينها انغمست في لُجّ أسئلتي أخوض معها غمار الحقيقة ، الحقيقة التي تخفيها هيَ والكثيرين والتي أبحث ُ عنها أنا والقليل ،
من أنتِ ؟
ما حكايتك!!
لماذا تقفين هنا كل يوم بهذا الشكل؟؟
أخبريني هل إنكسر ميزانك حقيقةً ..!!
من أمرك بهذا ..؟؟
أنظري إليّ ..سأعطيك الكثير من المال ..يكفي أن تتكلمي..؛؛
وهي خاويةٌ على عرش صمتها وكأنها تريد أن تقول وتقول وتروي وتتحدث وتعبر ثم تبكي وتبتسم وتعيش ولكن هناك شيءٌ ما يجبرها على الصمت ..!! ربما يمنعها من ذلك ..؟؟
لا أدري ما هو ..؟؟
ولكن ينتابني شعور التضارب ،
حدسي يقول لي هناك أمرٌ ما..وفضولي المستميت يدفعني للتدقيق والبحث ، وهناك في أقصى العقل شيءٌ يقول لي ؛ لا تتبع عورات الناس فكلك عوراتٌ وللناس أعيُنُ..!!
(6)
قلمي..
إني مغلوبٌ محتارٌ فأنتصر ، وبيّن ، وازهق ما بداخلي من تكهنات.
قلمي..
صِغْ لي ما تراهُ ، فأنا وأنت وهذه الفتاة وميزانها المكسور نتماها بين نويٌات التعجّب ومغازي الليل.
قلمي..
دوِّن على جدران الحقيقة ، حقيقة الحقيقة التي نهرب منها ونسعى لها.
قلمي..
أسمعني صهيلك ، ودَعْ عادياتك تتعدى حدود الفكر والفطرة ، واصدح بحرف القَرْحِ والجُرح اللذَيَنِ اماتا فيك حبراً كان للأحلام جندياً مهذب.
قلمي..
أما والله إن الكتابة بك عن موضوعٍ كهذا ليس كغيرة..فهما أمران أحلاهما مُرّْ..وكأني بك تخيّرني بين الموت والموت ، بين الألم والوجع ،بين النحيب والعويل ، بين البكاء والتناهيد العميقة.
قلمي..
إني والله يشهد..
اني لا أُعَمِم..أني لا أكشف عورة..أني لا أخفي حقيقة..ولا اكتم أمراً رأته عيناي ووعاه قلبي.
الأرصفة إمتلأت .. ليس بالاشجار والورود ، بل باطفالٍ ورود.
الأرصفة إمتلأت..ليس باللافتات الإرشادية ، بل بإجسادٍ عارية.
الأرصفة إمتلات..ليس بسلات القمامة..بل بزهراتٍ تاكل القمامة.
الأرصفة امتلأت..ليس بالمظلات وواقيات الحرارة ، بل بكراتين المياة .. بل بمُسنٍ يئِن..ومحتاجٍ يحِنّْ..وطفلٍ يزِن..
إكتضت بانواع المآكل بطون..وجاعت بطون.
إرتفعت هامة..وانتكست قامة.
تسمّن السمين..والتصق قفص الفقير بالوتين.
تفلطح بالملابس المترفون المترعون المترهون المفترون..وباتت عورة المسكين تُكشفُ حتى لشمس الظهيرة.
قلمي..
قم..إنهض..فهنا معتركٌ من نوعٍ آخر بين الضمير والأخلاق..وبين الحيوانية والنفاق.
تيقّن أيها القلم الأحدب أن هناك رياحٌ ستأتي .. ستهب
ستجوب الأرصفة الفاقرة.. والفلل الفارهة..ولن تكون إلا كما تشتهيه نفوس المكلومين ..؛؛
أما عن قصتي وميزان الفتاة ..
فلا اود اكمالها.. خوفاً من ظلم نفسي وإياها فلقد رحلت بعد حديثي معها بأيام ..
وكأنها تقول لي دعني وشأني ، فلا أنت أعلم بما أجِدُ ،
ولا أنت ادرى مما وبما أُحاذِر..
أخيراً لقلمي ولي ولمن يقرأ..؛
سنضطر للنزول إلى البحر يوماً ونحن لا نعرف السباحة ..
لا لشيٍء ..؛؛
سوى أننا مضطرون للنزول ،ومضطرون للثقة بالله..
تماماً مَثلُ حياتنا..
*ولله ما احتوته القلوب والأرصفة..*#
#إسماعيل_الفائق.."✨?