اللحوح العريقي.. قِبلة المتمدنين وميسّرة القرويين
"ما عليك إلا تُلحي.. والحطب والماء عليّ"، بانتشاء كبير، تتغنى صانعات اللحوح أثناء إعداده بهذا المهجل الشعبي، إذ خفف هذا المهجل مشقة جلب الماء والحطب على النساء، فكل ما عليهن القيام به هو إعداد اللحوح فقط.
مع توفر الغاز المنزلي في عدد من القرى، وبعد انتقال كثير من الأسر من الريف للعيش في المدينة، بات إعداد اللحوح بالطرق التقليدية أكثر سهولة، إذ وفرت "شُول الغاز" جهودًا مضنية كانت تُبذل في الماضي القريب، خاصة بُعيد الحرب.
شفيقة العبسي، 65 عامًا، تعلمت إعداد اللحوح في صغرها، فقد كانت الوجبة الأفضل بالنسبة لها. تقول: "علمتني أمي قبل زواجي، لكن بناتي لم يتعلمن إعداده لأنه ليس وجبة رئيسية، وإعداده يتطلب شراء 'ملحة وموقد غاز خاص بها'، وهو ما لا يتوفر في منزلي لصغر مطبخي".
اللحوح من أشهر أنواع الخبز في اليمن، وتتفرد منطقة الحجرية في محافظة تعز بإعداده بأشكال مختلفة، حيث لكل قرية لحوحها الخاص بها. ويتربع لحوح حيفان في قريتي الأعروق والأعبوس على عرش شهرة إعداده.
انتشار الوصفات
ساهم انتشار منصات التواصل الاجتماعي في تبادل مختلف الوجبات في كل أنحاء العالم، مما ساعد في التعريف بكيفية إعداد وصفات متنوعة من مناطق ودول مختلفة ليتم الاعتماد عليها كوجبات رئيسية، حلت محل الوجبات الشعبية صعبة الإعداد كاللحوح.
الشابة نسرين العريقي تقول لمنصة هودج: "حاولتُ تعلم صناعته، ولم أنجح في ذلك بالشكل المطلوب، لعدم تواجد ملحة في البيت". وترى أن تعلمه يناسب من تملك الوقت الكافي لصناعته، أما عنها، فيمكنها شراءه أو شراء أنواع أخرى من المخبوزات من السوق.
عجزت الأربعينية بشرى العبسي عن التعلم وتعتقد أن السبب هو عدم التعلم منذ الصغر. تقول: "حاولت أم زوجي تعليمي، لكنني لم أستطع ذر اللحوح. من يعرفن الذر يمتلكن الخفة في ذر العجين على الملحة، وهذا سر هذه الصنعة".
وترى المدير التنفيذي السابق لمركز التراث في مدينة تعز، سعاد العبسي، أن الأكلات الشعبية جزء مهم من الوجبات المحببة لربات البيوت. لكن، للأسف، جيل البنات الصاعد لم يهتم بهذه الأكلات، كما تقول.
استطلاع حول إعداد اللحوح
في استطلاع أجريناه على 44 فتاة، تبين أن 59% من المجيبات على الاستبيان لا يقمن بإعداد اللحوح، مقابل 41% يقمن بإعداده. وعند سؤالهن عن الأكلات الشعبية التي يُجدن إعدادها، تربع الخمير أو "العُشَر" على رأس قائمة الأصناف بنسبة 77%، يليه إعداد العصيد بنسبة 55%، وجاء ثالثًا إعداد الشؤاف بنسبة 54%، بينما احتل اللحوح المركز الرابع بنسبة 34%، يليه إعداد الفطير بنسبة 31%.
الأوضاع الاقتصادية
مع تردي الأوضاع الاقتصادية في البلاد، والذي انعكس على نوع الطعام الذي يتناوله اليمنيون، قلت صناعة الوجبات التي تتطلب أدوات خاصة لإعدادها. وتعتبر نسرين، التي تتمنى تعلم صناعة اللحوح الذي تشتهر به قريتها، أن تعلم اللحوح عملية صعبة في الوقت الحالي.
تقول: "منذ ثلاث سنوات وأنا أنوي شراء موقد وملحة حتى تستطيع أمي تعليمي إياه، لكني لم أقتدر ماديًا حتى الآن".
في المقابل، تعبر ابنة الريف آزال العبسي عن عدم اكتراثها باللحوح، فهو لا يدخل ضمن وجباتها المفضلة، ولا تهتم بتعلمه.
وتفاوتت إجابات المجيبات على الاستبيان اللواتي لا يقمن بإعداد اللحوح، حيث لم تتعود 41% منهن على أكله بشكل مستمر بسبب وجود الأفران والأنواع الجديدة من المعجنات. بينما حاولت 32% منهن تعلمه ولم يفلحن في ذلك. في حين أن 20% منهن لا يعرفن طريقة إعداده من الأساس بسبب عدم وجود ملحة لديهن، و17% منهن لم يتعلمن اللحوح لأن إعداده ليس من مسؤولياتهن في المنزل. و4% لا يعرفن طريقة إعداده بسبب غياب الملحة في البيت، و1% لسن متفرغات لإعداده.
تراث الموائد اليمنية
تظل الوجبات الشعبية في اليمن ركيزة أساسية في غالبية الموائد الخاصة بإكرام الضيوف. فلا تخلو العزائم من وجبات شعبية أُعدت بالطرق التقليدية، لعل أشهرها "العصيد"، على الرغم من انتشار وسائل حديثة لإعدادها. باستثناء اللحوح الذي لا يزال يُعد بالطرق التقليدية، ويصعب على عدد من فتيات الجيل الصاعد تعلمه.
وتشير سعاد إلى أن الوجبات الشعبية اليمنية، لو وجدت الاهتمام والتسويق الجيد، ستصل للعالمية، مبرهنة على ذلك بانتشار المطاعم اليمنية خارج اليمن والإقبال الكثيف عليها.
تضيف سعاد: "العريقيات، وبالأخص في قرية الخطوة، أضحت صناعة اللحوح لديهن مهنة ذات عائد اقتصادي، إذ وصل بيع اللحوح العريقي إلى العاصمة صنعاء، حيث يُباع بشكل يومي في محلات السوبر ماركت المنتشرة في المدينة".
وبحسب سعاد، التي أطلقت على اللحوح العريقي اسم "اللحوح الحيفاني" نسبة إلى مديرية حيفان في ريف تعز: "اللحوح أكلة شعبية تزين السفرة الريفية، خاصة في شهر رمضان". وتُعرب عن أملها في تأهيل الفتيات والنساء لإعداد اللحوح بتقنيته العتيقة التي كانت تُعد بها الجدات والأمهات، حتى يظل محتفظًا بذات المواصفات والجودة.
وتدعو سعاد إلى دعم الريفيات وتسهيل انتشار ثقافة التوعية بأهمية الأكلات الشعبية، التي تعد جزءًا هامًا من التراث الأصيل.
ارتبط اللحوح بذاكرة اليمنيين، وأصبح اليوم بوابة الولوج إلى كل ما هو جميل على صعيد الوجبات، حيث لا إتيكيت في تناوله. وأفضل طريقة للتناول، بالنسبة إليهم، هي أكله ساخنًا من الملحة.