مستشفى فرنسي يعالج مرضاه بـ "الخمور"
لم يتردد الطبيب الإغريقي أبقراط، المُلقب بـ "أبو الطب"، في أن يُجرب قبل قرون عددا من أنواع النبيذ لعلاج أمراض مختلفة، إيمانا منه بأن "النبيذ مادة مناسبة للبشرية، سواء للسليم من الناس أو العليل".
وفي الوقت الراهن، نُنصح باحتساء النبيذ باعتدال. لكن في فرنسا، التي عرفت زراعة الكروم منذ القرن الخامس الميلادي، ظلت عبارة "في صحتك" التي تُصاحب عادةً احتساء النبيذ والمشروبات الكحولية، تبدو مفعمة بالمصداقية حتى قرب بداية القرن الحادي والعشرين.
ولكي أتعرف على المزيد بشأن العلاقة التي تربط بين الطب والنبيذ في فرنسا، كان عليّ زيارة قبو للنبيذ في مستشفى يعود للعصور الوسطى بمدينة ستراسبورغ الواقعة في منطقة الألزاس شرقي هذا البلد الأوروبي.
ومن بين المعالم التي تشتهر بها هذه المدينة، التي يعود تاريخها إلى نحو ألفي عام، المنطقة الواقعة في وسطها والمدرجة على قائمة منظمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي منذ عام 1988. ويتدفق السائحون على هذه المنطقة، وعلى قائمتهم للزيارة أماكن تاريخية ودينية وتجارية، وكذلك مطاعم تقليدية تشتهر بنبيذها، أحدها تضمه جنبات مبنى شُيّد عام 1427.
لكن مبتغاي لم يكن سوى مستشفى تعليمي في ستراسبورغ، أُسِس عام 1119. قصدت المستشفى في أمسية ماطرة مع اثنين من الرفاق وسط شوارع خاوية مُعبدة بما يُعرف بـ "أحجار الإسكافي"، لتبدو المدينة بالفعل بقعة تعود إلى مئات السنين.
وارتبط المستشفى منذ عام 1395 بعلاقة تكافل مع قبو عتيق للنبيذ يوجد في نُزل تابع لأحد أديرة المدينة ويقع أسفل منه مباشرة.
وبلغت هذه العلاقة حد أنه لم يكن لأحد هذين المكانين أن يبقى قائما لولا وجود الآخر. فعلى مدار قرابة 600 عام، سدد الكثير من مرضى المستشفى فواتير علاجهم عبر التخلي عن أراضٍ مملوكة لهم ومزروعة بالكروم، وكانت المحاصيل التي تُزرع في هذه المساحات يُعد منها نبيذ يُخزّن في قبو النُزل. ولم يكن هذا الأمر حكرا على ستراسبورغ وحدها، بل كان ممارسة شائعة في فرنسا، إذ كانت مزارع الكروم توفر الدخل للمستشفيات، بينما مثلت أقبية النبيذ - التي كانت تعمل كمبردات ضخمة - الأماكن المثالية للحفاظ على هذا المشروب باردا.
وتدفق الناس من مختلف أنحاء فرنسا على هذا المستشفى للحصول على "علاجات نبيذية"، كانت اسما على مسمى، إذ تألفت مما يتراوح ما بين زجاجة إلى زجاجتين من النبيذ يوميا لمعالجة أمراض مختلفة.
وبالرغم من أن العلاج باحتساء النبيذ كان شائعا للغاية في العصور القديمة، فإن المسؤول عن هذا القبو قال لي إنه أطلع على أدلة تفيد بأن هذه "الوسيلة العلاجية" ظلت قيد الاستخدام منذ عام 1960 وحتى عام 1990.
وتنوعت الأمراض والعلل التي كان النبيذ يُستخدم لمعالجتها، بين الانتفاخ والبدانة والقوباء "الهربس"، وارتفاع نسبة الكوليسترول وكذلك تراجع الرغبة الجنسية لدى الرجال، بل وعند النساء أيضا.
وعندما سألت الرجل مازحا عما إذا كانت أمراض الكبد تندرج على هذه القائمة؟ أجابني ضاحكا: "بعض العلاجات ربما تؤتي أُكلها في هذا الشأن أكثر من غيرها". لكنني لاحظت لاحقا أن قائمة "العلاجات النبيذية" شملت وصفة يُمزج فيها أحد أنواع النبيذ بالماء الفوار لمعالجة "تليف الكبد".
وبرغم أن صفحة العلاج بالنبيذ طُويت قبل عقود، فإن القبو لا يزال يضطلع بدور مهم في تاريخ صناعة النبيذ في فرنسا، من خلال مواصلة عرضه لأنواع فاخرة من النبيذ الفرنسي، بجانب الدعم المالي الذي يوفره للمستشفى.
وخلال القرن العشرين باع المستشفى مزارع كروم لتمويل مشروعات كان يجب تنفيذها في جنباته دون إبطاء، ما أدى عمليا إلى وقف تدفق الكروم على القبو. بعد ذلك أُرغِم القائمون على القبو على التخلي عن براميل حفظ النبيذ العملاقة الخاصة بهم، والتي كانت مصنوعة من خشب البلوط، وذلك امتثالا لقانون أُقِر عام 1991 وتضمن بنودا متشددة استهدفت الحيلولة دون سقوط الفرنسيين في هوة إدمان الكحول.
وعبر حملة قادها المدير السابق للقبو، وأشرك فيها مزارعي الكروم في منطقة الألزاس، اقتنع النواب الفرنسيون بالإبقاء على هذا المكان، بدعوى أهميته كجزء من تراث المنطقة.
وبعد إنقاذ هذا المعلم، عكف مزارعو الكروم في منطقة الألزاس على تطوير أنواع النبيذ التي يُعدونها بمساعدة من مسؤولي القبو وخبراء متخصصين في هذا الشأن. ومنذ عام 1996 تقام في يناير/كانون الثاني من كل عام اختبارات على أنواع النبيذ التي تُعد في هذا القبو، وتستبعد الأنواع التي لا تصل إلى المستوى المنشود.
ويبلغ الإنتاج السنوي للقبو في الوقت الراهن 140 ألف زجاجة نبيذ من أنواع مختلفة، بفضل استخدام محاصيل كروم شارك 26 شخصا في زراعتها.
وتُعتق هذه الكميات من النبيذ لفترة تمتد ما بين ستة إلى عشرة أشهر في براميل ضخمة من البلوط، قبل أن تُعبأ في زجاجات وتُباع للمستهلكين. المذهل، أن القبو لا يلجأ أبدا للإعلان عن نفسه بأي شكل من الأشكال، وليس له سوى موقع إلكتروني خاص به.
ويقول المسؤولون عن هذا المكان إن المزارعين المشاركين في زراعة المحاصيل المُستخدمة فيه، يمنحون جزءا محدودا منها إلى المتجر التابع للقبو التاريخي، كإيجار. وبينما يتم الانتفاع من إيرادات المتجر في شراء معدات وتجهيزات طبية للمستشفى، يستفيد المزارعون من عائدات بيع الجانب الأكبر من النبيذ الذي يُعد في هذا المكان.
المفارقة أن هناك نبيذا في القبو لا يُعرض للبيع أبدا. فبداخل خزانة صغيرة ملتصقة بالجدار الحجري للمكان، توجد جمجمة وقنينة من النبيذ - كتب عليها تاريخ عام 1472 - وتغير لون السائل الموجود بداخلها بمرور الزمن لتصبح أشبه بالدم الجاف. ويقول المسؤولون هنا إن ثمة تكهنات تشير إلى أن هذه الجمجمة تخص أول مسؤول عن ذلك القبو.
لكن ماذا عن قصة هذا النبيذ الذي تغير لونه؟ للتعرف على الإجابة، أخذنا المسؤول عن القبو عبر بوابة حديدية عتيقة تفصله عن منطقة تخزين، تراصت فيها بعض البراميل المصنوعة من خشب البلوط، وهي أقدم عمراً من نظيراتها الموجودة في القبو نفسه. هناك كشف لنا الرجل النقاب عن نبيذ الألزاس الأبيض، الذي يُعتقد أنه أقدم نبيذ أبيض في العالم خُزّن وعُتق في براميل.
شرح لنا المسؤولون في المكان أن أحدا لم يذق ذلك النوع من النبيذ سوى ثلاث مرات، أولاها كانت في عام 1576 عندما شحن سكان مدينة زيورخ الواقعة على بعد نحو 200 كيلومتر إلى الجنوب الشرقي من ستراسبورغ، قِدرا ضخما من العصيدة إلى قاطني تلك المدينة الفرنسية، لإظهار أنهم على استعداد لمد يد العون لهم في أي وقت احتاجوا فيه لذلك. ولأن العصيدة وصلت ساخنة رغم رحلتها التي استغرقت نحو 24 ساعة، قرر سكان ستراسبورغ - كما يقول المسؤولون عن قبو النبيذ - الرد على ذلك بالسماح لأهالي زيورخ العطشى بتذوق رشفة من نبيذهم المُعتق الفاخر.
المرة الثانية كانت في عام 1718 خلال عملية إعادة تشييد المستشفى، بعد حريق مدمر أتى على كل شيء في المكان، ولم ينج منه سوى القبو ومبنى الكنيسة البروتستانتية الموجود هناك وكذلك مبنى الصيدلية، التي كانت مخبزا في الأصل قبل 200 عام من ذلك. فمع الحجر الأول الذي وُضِع في المبنى الجديد للمستشفى، وُضعت - وبشكل رمزي - قنينة صغيرة من ذلك النبيذ المُعتق منذ عام 1472. وفي تلك المناسبة، تم تذوق ذاك النوع من النبيذ للمرة الثانية.
أما المرة الثالثة والأخيرة، فكانت في عام 1944 عندما ارتشف الجنرال الفرنسي لوكلير، رشفة من ذلك النبيذ احتفالا بتحرير ستراسبورغ من الاحتلال النازي.
وربما كانت حماستنا التي استشعرها مرافقنا المسؤول عن القبو، هي ما حدت به إلى منحنا فرصة لا تتسنى لكثيرين من الزوار، الذين لا يُسمح لهم حتى بتجاوز البوابة الموجودة عند منطقة التخزين. فقد أُتيحت لنا الفرصة لأن نشم رائحة ذلك النبيذ المُعتق الفاخر الموجود في القبو.
بعد ذلك، قلت له آملا: "رائحتها ذكية. هل لي ربما في رشفة صغيرة؟" هز مرافقنا رأسه رافضا. فمستوى درجة الحموضة في النبيذ الموجود في هذا البرميل تبلغ 2.28، وهو مستوى مرتفع للغاية يجعل احتساء هذا الشراب يسبب آلاما في المعدة لا محالة.
اللافت أن البرميل الذي يوجد فيه هذا النوع من النبيذ، لا يحتوي فقط على تلك الكميات المُعتقة منذ عام 1427، فالمسؤولون عن القبو يضيفون في كل عام كمية تتراوح ما بين أربعة إلى ستة لترات من النبيذ، إلى الـ 400 لتر الأصلية المُخزنة فيه.
وعندما سألنا عن نوع الكروم الذي استُخْدم لإعداد هذا النبيذ الشهير لم نجد إجابة، فبحسب المسؤولين عن القبو: "حدثت الكثير من التغييرات في هذا الشأن على مر السنوات، وكانت هناك أيضا عمليات مزج وخلط كثيرة بين أنواع الكروم في المزارع" فيما يتعلق بإعداد الأنبذة".
وبينما كان الغطاء يُوضع من جديد على البرميل مُغلقاً إياه، كنت آمل في أخذ رشفة، حتى لو أصابني ذلك بألم مؤقت في المعدة، لكي يتسنى لي القول فيما بعد أنني تذوقت - ولو مرة - هذا النبيذ الخاص من نوعه. وبجانب ذلك؛ ألا يفترض أن يكون هناك علاج "نبيذي" أيضا لمثل هذه الآلام بدورها؟!
لحسن الحظ كانت هناك خيارات أخرى من النبيذ المعتق متاحة لنا لتذوقها خلال الزيارة. من بينها نوع استُخْدم حتى عام 1990 لعلاج الالتهابات والعدوى.
ولذا لم يكن غريبا أن أغادر القبو وفي يدي قنينة من هذا "الدواء" الإلزاسي اشتريتها لإهدائها لأسرتي، إما لوضعها في خزانة الأدوية، أو لكي تُوضع في ليلة ما على طاولة العشاء في منزلنا.