كيف يجري "التلاعب بالعقول" للتأثير على طريقة التفكير في بعض القضايا؟

اشْتُقَ مصطلح "التلاعب بالعقول" من اسم فيلم "جاسلايت" الذي عُرِضَ عام 1944

الوطن توداي / BBC:

غم أن مصطلح "التلاعب بالعقول"، كان يشير حينما جرى نحته للمرة الأولى، إلى كراهية المرأة وإساءة معاملتها عاطفيا، بات من الواضح أن عدد من يعانون من هذه الظاهرة منّا الآن، أصبح أكبر بكثير مما قد ندرك.

ربما يكون مصطلح "التلاعب بالعقول" مألوفا بالنسبة لك، في سياق العلاقات الثنائية بين الناس. لكن هذا الأسلوب الهادف للتحكم في الآخرين، يمكن أن يكون مؤثرا أيضا، إذا ما مورس مع مجموعة من الأشخاص، وليس بشكل فردي، وهو ما يصفه بعض الخبراء، بـ "التلاعب بالعقول على نحو بنيوي".

فهل صادفك يوما ما، من قال لك شيئا دفعك للتشكك في قوة ذاكرتك؟ وهل يا تُرى اقتنعت بذلك، بعدما علمت أنه كان يفعل ذلك، لـ "التلاعب" بك لا أكثر؟.

على أي حال، فقد تزايد على مدار السنوات القليلة الماضية - وبشكل كبير - استخدام مصطلح "التلاعب بالعقول"، للإشارة إلى هذه الظاهرة. ومع أن ذلك المصطلح دخل القواميس قبل أكثر من نصف قرن، فإن الازدياد المتسارع في استخدامه بدأ نحو عام 2013، ولم يتباطأ منذ ذلك الحين.

 

من حيث التعريف، يعني "التلاعب بالعقول"، التأثير في شخص ما، لدفعه للتفكير في أنه مخطئ حتى حينما يكون مُصيبا. ويمثل ذلك ضربا من ضروب إساءة معاملة الآخرين عاطفيا، ويمكن استغلاله لجعل ضحيته يتشكك في مدى سلامة قدراته العقلية.

 

وقبل عقود من اختيار هذا المصطلح ليكون المفردة الأكثر انتشارا في عام 2018، شاع استخدامه بين العاملين في المجال الطبي. وقد اشْتُق من اسم فيلم عُرِضَ عام 1944، ودارت أحداثه حول رجل يقنع زوجته، بأنها في سبيلها إلى الجنون. ومع أنك قد تكون قد سمعت هذا المصطلح للمرة الأولى في سياق علاقات مثل هذه؛ فإنه موجود في واقع الأمر، في الكثير من جوانب حياتنا اليومية.

وفي وقت يمكن أن يوحي فيه الأصل الذي اسْتُمِدَ منه هذا المصطلح، بأنه يتناول أسلوبا لا يستخدمه سوى خبراء في التلاعب بعقول الآخرين، فإن المعطيات تفيد بأن الكثيرين منّا، ربما يمارسونه دون حتى أن يدركوا ذلك.

وتقول شيريل ميور، خبيرة التدريب على إقامة علاقات اجتماعية صحية وسليمة في المملكة المتحدة، إن "`التلاعب بالعقول` يمكن أن يحدث في مكان العمل، أو بين أفراد الأسرة أو في إطار علاقات حب عذري، وكذلك في سياق العلاقات الرومانسية. وفي بعض الأحيان، لا يمارس البعض هذا الأسلوب معك، بدافع شرير أو لإيذائك عمدا"، وإنما لافتقارهم إلى "الإدراك الذاتي"، وهو معرفة كل منهم بشخصيته ومشاعره ودوافعه ورغباته، وفهمه لكل ذلك أيضا.

وأشارت ميور إلى أن أشخاصا مثل هؤلاء، ربما يمارسون "التلاعب بالعقول" معك، بدافع حمايتك من وجهة نظرهم.

فقد لاحظت الباحثة أن ذوي الأطفال الذين شاهدوا في منازلهم، وقائع تتضمن إدمانا للمشروبات الكحولية أو تعاطيا للمخدرات أو ممارسة للعنف المنزلي، قالوا لصغارهم في أغلب الحالات عندما واجهوهم بذلك، إن هذه الوقائع لم تحدث من الأصل. وتقول ميور إنه بالرغم من أن نوايا هؤلاء الآباء والأمهات ربما تكون حسنة، في ضوء أن الإنكار هنا، يستهدف حماية أطفالهم، فإن ذلك يجعلهم غير موثوق بهم في نظر أولئك الأبناء.

وتوضح بالقول: "هذا شكل من أشكال `التلاعب بالعقول`، ولذا فإذا كنت منذ نعومة أظفارك، غير قادر على الثقة في ما يقوله لك ذووك، فإنك ستشب عن الطوق، وأنت عاجز عن إبداء ثقتك في أي شخص آخر". كما يكشف ذلك عن أن الإنكار أسلوب شائع، من جانب من يسيئون معاملة الأطفال.

ومن بين الباحثين الذين يولون اهتمامهم لظاهرة العنف المنزلي؛ بيج سويت الأستاذة المساعدة في علم الاجتماع بجامعة ميشيغان، والتي ترى أن "التلاعب بالعقول" أمر متجذر بقوة في البنية المجتمعية، ومرتبط بشدة بعدم المساواة السائدة في المجتمع.

وتوضح سويت أن هذا التفاوت يجعل النساء أكثر عرضة للمرور بتلك التجربة، سواء في مكان العمل أو في المنزل. وتشير في هذا الصدد إلى أن "الافتراض الخاص بأن النساء عاطفيات بشكل مفرط، ويتسمن بالحساسية واللا عقلانية في تصرفاتهن، ويسهل أن يفقدن السيطرة على غضبهن، والصور النمطية السائدة كذلك في هذا الإطار، يُستخدمان كذريعة لتبرير رفض مشاعر أولئك النسوة وتجاربهن". وتشير إلى أن الصور النمطية التي تُلصق بالنساء اليوم، تتذرع بالجانب العاطفي لديهن، للقول إنهن لا يتمتعن بالكفاء اللازمة.

أما النساء ذوات البشرة السوداء، فيعانين من صورة نمطية، تفترض أنهن قويات وغير قابلات للكسر، وهو ما يقود - كما تقول صوفي ويليامز مؤلفة كتاب تحت الطبع بعنوان "أبناء جيل الألفية من ذوي البشرة السمراء" - إلى أن يتوقع الآخرون أنهم غير مضطرين، لمحاولة مد يد العون والمساعدة لهن.

وتوضح الكاتبة بالقول: "لا تعد الصحة العقلية من بين المسائل التي تُناقش بصراحة وصدق في أوساط السكان من ذوي البشرة السمراء، وهو أمر يتغير الآن. لكن ثمة صورة ذهنية سائدة، تفترض أن السيدة سوداء البشرة لا تنكسر ولا تحتاج إلى مساعدة".

 

وفي هذا الإطار، يستخدم الباحثون الآن مصطلح "التلاعب بالعقول"، للحديث عن نهج يتم من خلاله الإبقاء على وضع في المجتمع "مؤيد للبيض ومناوئ للسود"، وذلك من خلال وصم من يقفون في وجه الأفعال ذات الطابع العنصري بأنهم "غير أسوياء نفسيا".

وتقول صوفي ويليامز إن افتراض أنه ليس بوسع النساء سوداوات البشرة، طلب المساعدة النفسية، بدعوى أنهن أكثر قوة مما هن عليه بالفعل، يجعل مواجهة مثل هذا النوع من العنصرية، أمرا أكثر صعوبة، موضحة أن ذلك يفضي إلى أن تتدهور أوضاع الصحة النفسية لأولئك النسوة بشكل خاص، برغم تحسنها بالنسبة للنساء بوجه عام، وذلك نظرا لعدم حصولهن على المساعدة الضرورية لهن. لكن هذا التدهور يحدث بشكل غير ظاهر.

وخلال فترة نشأتها، عانت ويليامز نفسها من "التلاعب بالعقول" الموجه لعرقية بعينها. رغم ذلك، فلم تكن على علم بطبيعة ما تتعرض له، حتى هذا العام. وتقول إن تعرضها لهذا الأسلوب، يجعلها وأترابها من المنتمين للعرق نفسه، يظهرون كأنهم أشخاص غير موثوق في صحة ما يروونه من أحداث حياتهم نفسها. وتضيف بالقول: "فلتتخيل العبء الذي يضعه ذلك على كاهلك؛ أن تمر بشيء ما ثم يُقال لك بعد ذلك، إن ما أحسست به غير صحيح. إنه لأمر مجحف بشدة، وغير مقبول بكل الأحوال".

وتشير إلى أن الاحتجاجات التي شهدتها الولايات المتحدة تحت شعار "حياة السود مهمة"، والتي اندلعت بعد مقتل المواطن الأمريكي أسود البشرة جورج فلويد خلال اعتقال الشرطة له، تُظهر كيف تتضافر أساليب "التلاعب بالعقول" سياسيا وعرقيا جنبا إلى جنب، في أغلب الأحيان. إذ تقول ويليامز، إنه بعدما شاهد الناس المقطع المصور الذي يُظهر كيف فارق فلويد الحياة جراء وضع شرطي أبيض البشرة ركبته على رقبته، قال لهم المسؤولون إن الوفاة كانت بمثابة "حادث"، وهو ما يتعارض مع تفسيرهم الخاص لما رأوه بأعينهم. لكن تم توجيه تهمة القتل بعد ذلك، للشرطي المعني بالواقعة.

ومضت الباحثة قائلة: "استخدمت الاحتجاجات التي تلت ذلك بطريقة سياسية، وذلك لتصوير من خرجوا للمطالبة بتحقيق العدالة في هذه القضية، على أنهم مجرمون. إنه لأمر مدمر، أن يُستخدم أسلوب `التلاعب بالعقول`، من جانب من يتحملون مسؤولية ما، أو من يشغلون أحد المناصب، لأن ذلك يحرمنا من ممارسة حقوقنا، بالطريقة التي ينبغي أن يتسنى لنا بها ذلك".

وقد أجرت كل من أنجيليك إم. ديفيس وروز إرنست، الأستاذتين في العلوم السياسية بجامعة سياتل الأمريكية، أبحاثا حول الكيفية التي أدى بها "التلاعب بالعقول" ضد أبناء عرق بعينه، إلى الإبقاء على ذاك الوضع الاجتماعي "الداعم للبيض والمناوئ للسود".

وتعاونت الاثنتان لتحليل كيف ترسخت إيديولوجيات مثل هذه في ثقافة الولايات المتحدة. وقالت إرنست في هذا السياق: "الكثير للغاية من نماذج `التلاعب بالعقول` لأغراض عرقية؛ من تلك التي مررنا بها ودرسناها كذلك، كانت راسخة في بنية الولايات المتحدة، وتاريخها وثقافتها. يصعب بشكل هائل التعامل مع ذلك، على مستوى الأفراد أو المجموعات، ناهيك على صعيد المجتمع".

 

كن هل تعزز البيانات والأرقام ما تشير إليه ديفيس وإرنست وويليامز، من وجود اختلاف بين الأمريكيين السود والبيض، على صعيد التعامل مع القضايا المرتبطة بالمساواة بين الأعراق؟

للإجابة على هذا السؤال، يجدر بنا التعرف على نتائج استطلاع للرأي، أُجري في سبتمبر/أيلول الماضي، وشمل أكثر من 10 آلاف أمريكي بالغ، جرى استطلاع آرائهم، حول ما إذا كانوا يعتقدون أن وضع المساواة بين الأعراق في وطنهم، شهد تقدما كافيا أم لا.

وأظهرت النتائج أن 86 في المئة من السود قالوا إنه لم يتم تحقيق تقدم كافٍ، بزيادة عمن قالوا ذلك منهم العام الماضي، ممن لم تتجاوز نسبتهم وقتذاك 78 في المئة. على الجانب الآخر، أظهر الاستطلاع أن نسبة المتفقين مع هذه الرؤية من الأمريكيين البيض، بلغت 39 في المئة فقط، مقارنة بـ 37 في المئة تبنوا الرأي نفسه في 2019.

وفي الاستطلاع نفسه، أشار 64 في المئة من أصحاب البشرة السمراء، إلى أنهم يولون اهتماما كبيرا لقضايا المساواة العرقية، مقارنة بـ 40 في المئة من البيض.

وقال قرابة 80 في المئة من الأمريكيين السود (مقارنة بـ 40 في المئة من نظرائهم البيض) إنه من المهم أن يتزودوا بمعلومات كافية عن تاريخ التفرقة العرقية في الولايات المتحدة. ويبدو أن تصرفات الأمريكيين تعزز تلك النتائج، فقد تبين أن عدد من اتخذوا إجراءات فعلية، لاكتساب معلومات أكثر بشأن القضايا المرتبطة بعدم المساواة العرقية، يزيد بين السود عن أترابهم البيض بنسبة 18 في المئة.

وبناء على آراء هذه العينة من الأمريكيين، يمكن القول إن هناك اختلافا في التوجهات بين الأمريكيين السود والبيض، حيال مسألة المساواة بين الأعراق، ما يُشكِّل "ثقافة متأصلة"، يقول الباحثون إنها تؤدي إلى "التلاعب بالعقول" لأغراض عرقية.

لكن ديفيس شعرت بالصدمة، إزاء كثرة عدد الأمريكيين السود، الذين وجدت أنهم يفتقرون لطرق يستطيعون من خلالها وصف ما يتعرضون له. وتقول في هذا السياق: "شكلّت احتجاجات `حياة السود مهمة` نموذجا، على الكيفية التي يجري بها استخدام أسلوب `التلاعب بالعقول` لأغراض عرقية، وذلك لجعل الناس (السود المحتجين) يظهرون بصورة معينة أمام الرأي العام. إنه مسرح سياسي، والأمر محسوب ومتعمد".

وتوظف ديفيس وإرنست خبراتهما لتزويد موظفي الشركات متعددة الجنسيات، بالمهارات اللازمة لرصد وجود "تلاعب بالعقول" لأسباب عرقية في أوساط هذه المؤسسات، والتعامل مع هذا الأمر كذلك.

وفي الآونة الأخيرة، صدر أمر تنفيذي في الولايات المتحدة، يحظر أنشطة تدريبية مثل هذه التي تقومان بها؛ وذلك بدعوى مكافحة رسم صور نمطية "معادية للأمريكيين"، على صعيديْ المساواة بين الجنسين، وبين الأعراق أيضا.

وتقول ديفيس إن اللهجة التي استُخْدِمَت في صياغة هذا الأمر، تمثل نموذجا لمدى دقة وذكاء طرق التحكم، التي تُتَبَع في هذا الصدد. وتشير في هذا السياق إلى ما ورد في ذلك الأمر، من أن الحديث عن أن الممارسات العنصرية، تُرْتَكَب من جانب رجال بيض البشرة أو أُناس بيض بشكل عام يشجع على بلورة "اعتقاد خاطئ" مفاده بأن "أمريكا بلد عنصري ومتحيز ضد المرأة".

 

وفي استطلاع آخر، أُجري عام 2019 بين الأمريكيين البالغين، أي قبل شهور من توقيع الرئيس دونالد ترامب الأمر التنفيذي الذي أشرنا إليه في السطور السابقة؛ قال 73 في المئة من سود البشرة و49 في المئة من البيض إن حكم ترامب أدى لتدهور العلاقات العرقية بين كل الأعراق المختلفة في البلاد. وأوضح الاستطلاع ذاته، أن الرؤية نفسها حظيت بتأييد 57 في المئة و56 في المئة من الأمريكيين ذوي الأصول الإسبانية والآسيوية، على الترتيب.

الآن ستكون للولايات المتحدة إدارة جديدة، وتأمل ديفيس وإرنست، في أن يتغير الوضع، وأن تصبح أنشطتهما البحثية أكثر قيمة من ذي قبل. وتقول ديفيس: "أشعر بالارتياح لأن مجال عملي وخبرتي، لن يتعرض للهجوم من جانب الإدارة المقبلة. ولا يزال أمام الولايات المتحدة، الكثير من العمل للقيام به على هذا الصعيد".

وأعربت إرنست بدورها عن ارتياحها لنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة. لكنها حرصت كذلك على التشديد، على أنه لا تزال هناك حاجة لبذل كثير من الجهود، للتصدي لعمليات "التلاعب بالعقول" لأغراض عرقية.

وتقول في هذا الشأن: "العمل لتحقيق العدالة بين الأعراق، يُبنى على جهد جماعي، يشارك فيه الكثيرون في الماضي والحاضر والمستقبل. فالانتخابات لا تغير حقائق التاريخ الراسخة، التي لا تزال تتطلب الاعتراف بوجودها والتكفير عنها كذلك".

على أي حال، فبغض النظر عن الانتماء الحزبي لساكن البيت الأبيض، لا تزال العنصرية سائدة بشكل كبير في الولايات المتحدة، وفقا لآراء عبر عنها أمريكيون من سود البشرة وبيضِها.

المشكلة أن تسلل ظاهرة "التلاعب بالعقول" لأغراض عرقية، من المجال الاجتماعي إلى الفضاء السياسي وإلى حياة الناس الشخصية أيضا، قد يعزز إيديولوجيات وصورا نمطية عفا عليها الزمن. وتأمل ديفيس وإرنست، في أن يؤدي الإقرار بالمؤشرات التي تؤكد حدوث ذلك، إلى الشروع في إصلاح الأضرار الناجمة عنه.